عاني المصريين كثيراً من تغير أسعار السلع والمستلزمات الأساسية، والأجهزة الكهربائية وحتى الأدوية، وكان هذا بمثابة رد فعل طبيعي بعد إنخفاض قيمة الجنيه السوقية. على الرغم من الأنخفاض الواضح لقيمة الجنية، المتمثله في ارتفاع معدل التضخم، وارتفاع اسعار السعر، إلا ان قيمة الجنيه المصري في البنوك والمؤسسات ظلت ثابته عند 30.80 الى 31 مقابل الدولار. حتى ان سعر الدولار مقابل الجنية وصل في يناير وفبراير لعام 2024 في السوق السوداء الى معدلات تاريخيه حيث سجل الدولار 72 جنيه!
في ظل ارتفاع اسعار الدولار الجنونية مقابل الجنيه المصري في السوق الموازية والتعاملات الفردية خارج الإطار المصرفي الرسمي، تسأل الكثير من العامة وحتى الاقتصاديين، هل الحل فالتعويم وتحرير سعر الصرف؟ أم ان خفض قيمة الجنيه الرسمية في البنك المركزي المصري سيزيد الطين بله؟ كل هذا وأكثر سوف نناقشة سوياً، وسنعرف ما هو التعويم من الأساس وما هي فوائد تعويم الجنيه وما هي عواقبه. تابع للنهاية لتعرف كل شيء!
ما هو التعويم؟
يشير تعويم العملة، والمعروف أيضًا باسم نظام سعر الصرف الحر، إلى نظام نقدي يتم فيه تحديد قيمة عملة الدولة من خلال قوى العرض والطلب في السوق مقارنة بالعملات الأخرى. يتم تحديد العرض والطلب في سوق تداول مفتوحة وشفافة مثل تداول الفوركس. على عكس أنظمة سعر الصرف الثابت، حيث تكون قيمة العملة مرتبطة بعملة أخرى أو بسلة من العملات، فإن سعر الصرف العائم يسمح للعملة بالتقلب بناءً على ظروف السوق.
تعكس التحركات قصيرة المدى في عملة ذات سعر صرف عائم المضاربات والشائعات والكوارث والعرض والطلب اليومي على العملة. إذا زاد العرض عن الطلب، فسوف تنخفض العملة، وإذا ارتفع الطلب عن العرض فسوف ترتفع قيمة تلك العملة.
يمكن أن تؤدي التحركات السريعة قصيرة المدى إلى تدخل البنوك المركزية، حتى في بيئة أسعار الفائدة المتغيرة. ولهذا السبب، في حين أن معظم العملات العالمية الرئيسية تعتبر معومة، فقد تتدخل البنوك المركزية والحكومات إذا أصبحت عملة الدولة مرتفعة جدًا أو منخفضة جدًا. وهنا نكتشف دور البنك المركزي المصري، والذي يمكن ان يدعم الجنيه المصري في حالة انخفاضة بشكل كبير، عبر توفير الدولار.
يمكن أن يؤثر ارتفاع قيمة العملة بشكل كبير أو انخفاضها أيضاً بصورة ضخمة على اقتصاد الدولة سلبًا، مما يؤثر على التجارة والقدرة على سداد الديون. لذا تحاول الحكومة أو البنك المركزي تنفيذ تدابير واجراءات لحماية العملة المحلية لتكون في سعرها الحقيقي والعادل.
كيف يتم تحديد سعر صرف الجنيه المصري
يتم تحديد سعر صرف الجنيه المصري بناءاً على العرض والطلب، والبنك المركزي هو من يحرك تلك الأسعار وتلتزم البنوك والمصارف وشركات الصرافة بالأسعار المُحددة. ولكن في الأزمات وندرة الدولار في البنوك، وخصوصاً بعد وقف بطاقات الائتمان من التعامل في الاسواق العالمية، ظهرت السوق السوداء والتي يتعامل بها الافراد دون وسيط.
وفي السوق السوداء وحتى اسواق الذهب يتعاملون بالسعر الحر والغير رسمي للدولار دون الألتزام بقرارات البنك المركزي المصري، وهو ما دفع المركزي لإتخاذ اجراءات تحرير سعر الصرف لمكافحة تلك الاسواق الغير رسمية. الجدير بالذكر ان الحكومة المصرية برخم تشديد الإجراءات والقبض على المتعاملين في السوق الغير رسمية، إلا ان الأمر زاد سوءاً وهو ما جعل تحرير الصرف أمراً لا مفر منه!
لماذا قررت مصر تعويم الجنيه؟
كان قرار مصر بتعويم الجنيه المصري في عام 2016 وأيضاً في 2024 مدفوعًا بمجموعة من العوامل الاقتصادية المحلية والدولية. واجهت البلاد تحديات اقتصادية مستمرة، بما في ذلك اتساع عجز الميزانية، وانخفاض احتياطي العملات الأجنبية، وتزايد الخلل في الميزان التجاري. وتفاقمت هذه القضايا بسبب وجود سوق سوداء موازية لصرف العملات، مما أدى إلى تقويض سعر الصرف الرسمي وخلق تشوهات اقتصادية.
ومن خلال اختيار سعر الصرف المعوم والحر، والذي وصل في مارس 2024 الى 50.5 جنية مقابل الدولار، هدفت مصر إلى تحقيق عدة أهداف، ومنها:
- قيمة حرة للعملة والتي يحركها السوق: إن السماح بتحديد الجنيه المصري من خلال قوى السوق من شأنه أن يتيح انعكاسًا أكثر دقة لقيمته الحقيقية، مما يقلل من التناقضات بين أسعار السوق الرسمية وأسعار السوق السوداء. يقضي توحيد سعر العملة وإتاحه الدولار في البنوك على السوق الموازية، ويغلق هذا الباب من الأساس.
- جذب الاستثمار الأجنبي: غالبًا ما يُنظر إلى سعر الصرف الأكثر مرونة على أنه عامل جذاب للمستثمرين الأجانب، لأنه يعزز الشفافية ويقلل من مخاطر التخفيضات المفاجئة لقيمة العملة. فبالتأكيد لن يشتري مستثمر شركة بمليون دولار على سبيل المثال، وبعد التعويم يجد ان ماله قد انخفض الى 600 الف دولار فقط في أيام معدودة!
- استقرار الاقتصاد: كان من المتوقع أن يؤدي تعويم الجنيه المصري إلى قدر أكبر من الاستقرار الاقتصادي من خلال مواءمة قيمة العملة مع أساسيات السوق، وتثبيط أنشطة المضاربة في سوق الصرف الأجنبي.
قرارات البنك المركزي المصري
لعب البنك المركزي المصري دورًا حاسمًا في تنفيذ قرار تعويم العملة. وعمل البنك المركزي المصري كقوة استقرار، حيث تدخل في سوق الصرف الأجنبي عند الضرورة لمنع التقلبات المفرطة. بالإضافة إلى ذلك، نفذ البنك المركزي سلسلة من الإجراءات النقدية والمالية لدعم الاقتصاد خلال الفترة الانتقالية، مثل تعديلات أسعار الفائدة وإصلاحات الدعم.
قبل قرار التعويم، قد تم توفير الدولار في البنوك بعد صفقة رأس الحكمة، وكذلك تم طرح شهادات إستثمارية بفائدة وصلت 30% سنوياً لدعم الجنيه المصري. فمن خلال هذه الإجراءات والأخبار الإيجابية حول الجنيه المصري، قد انخفض سعر الدولار في السوق السوداء من 72 الى 50 جنيه في ايام معدودة.
السوق السوداء للدولار في مصر
قبل تعويم العملة، عانت مصر من وجود سوق سوداء مزدهرة لصرف العملات. وساهم هذا السوق غير الرسمي في حدوث تشوهات في الاقتصاد، حيث قدم أسعار صرف تختلف بشكل كبير عن السعر الرسمي. وقوضت السوق السوداء سيطرة الحكومة على السياسة النقدية وأدت إلى فقدان الثقة في العملة الوطنية المصرية. مما جعل الكثير من المستثمرين يأجلون قرارات الاستثمار في السوق المصري حتى حل هذه الأزمة.
ويهدف قرار تعويم الجنيه المصري إلى تقويض نفوذ السوق السوداء من خلال مواءمة الأسعار الرسمية والمحددة في السوق. وفي حين تسببت هذه الخطوة في البداية في انخفاض حاد في قيمة العملة، فإنها سعت في نهاية المطاف إلى خلق بيئة صرف أجنبي أكثر شفافية واستقرارا. هناك الكثير من الأسواق الرقمية والتي كان لها دور أيضاً في تفاقم الأزمة، مثل منصة بينانس، والتي كان يُباع عليها الدولار الرقمي USDT بأسعار تجاوزت 75 جنيهاً للدولار!
قرض صندوق النقد الدولي
في السنوات الأخيرة، تعاونت مصر مع صندوق النقد الدولي لتأمين المساعدة المالية التي تهدف إلى تعزيز استقرارها الاقتصادي وتنفيذ إصلاحات حاسمة. ويمثل قرض صندوق النقد الدولي لمصر شراكة استراتيجية تهدف إلى مواجهة التحديات الاقتصادية وتعزيز النمو المستدام. ويشكل القرض، الذي يتم تنظيمه عادة بشروط تتطلب إصلاحات اقتصادية، بمثابة حافز لتعديلات السياسات التي تساهم في الانضباط المالي والاستقرار النقدي والتحسينات الهيكلية.
تدعم الأموال التي يقدمها صندوق النقد الدولي الحكومة المصرية في تنفيذ تدابير مثل إصلاحات الدعم، وإعادة هيكلة الضرائب، وشبكات الأمان الاجتماعي. وفي حين أن القرض قد ينطوي على تحديات قصيرة الأجل، فإنه يعد عنصرا حاسما في الاستراتيجية الاقتصادية الأوسع لمصر، مما يساعد على تعزيز ثقة المستثمرين، وجذب الاستثمار الأجنبي، وتعزيز المرونة الاقتصادية على المدى الطويل.
ويؤكد التعاون مع صندوق النقد الدولي التزام مصر بتجاوز التعقيدات الاقتصادية وإرساء الأساس لاقتصاد أكثر قوة وتنوعًا في المستقبل. وهو ما جعل تحرير سعر الصرف وتعويم الجنيه أحد أهم شروط صندوق النقد الدولي!
فوائد تعويم الجنيه المصري
هناك الكثير من الفوائد لتحرير وتعويم سعر الجنيه المصري، والتي بالتأكيد ستعود على المواطن بالإيجاب، وكذلك على الاقتصاد والأستثمار في السوق المصري بشكل عام بالايجاب ايضاً. ومن ضمن هذه الفوائد ما يلي:
- تحسين كفاءة السوق
من خلال السماح بتعويم الجنيه المصري، كانت الحكومة تهدف إلى خلق سوق أكثر كفاءة حيث تحدد قوى السوق قيمة العملة. وهذا بدوره يعزز اقتصادًا أكثر صحة وديناميكية. فيمكن للمستثمر فهم طبيعة السوق وتحويل أمواله بسعر شفاف وعادل وكذلك التحوط لعدم الخسارة من آثار التضخم.
- تعزيز القدرة التنافسية
إن سعر الصرف الأكثر مرونة يجعل السلع والخدمات المصرية أكثر قدرة على المنافسة في السوق العالمية. ويوفر انخفاض قيمة العملة قوة دافعة للصادرات، مما قد يؤدي إلى خفض العجز التجاري بمرور الوقت. فكلما انخفضت قيمة العملة، كانت اسعار السلع أكثر قابليه للتصدير، وهو ما يدعم العملة المحليه من خلال توفير مصادر دولارية جديدة للدخل القومي. فمثلاً قامت الحكومة الصينية بخفض قيمة عملتها عمداً لأنها تعتمد على التصدير بشكل أساسي في الاقتصاد، ويمكن ان تكون الفرصة الآن للدولة المصرية لإستغلال انخفاض قيمة عملتها!
- انخفاض أنشطة المضاربة
يؤدي تعويم الجنيه المصري إلى تثبيط أنشطة المضاربة في سوق الصرف الأجنبي، مع تراجع المشاركة المباشرة للحكومة. وهذا يعزز بيئة اقتصادية أكثر استقرارا، ويجذب الاستثمار طويل الأجل. فالكثير من تجار العملة في السوق السوداء قد خسروا بعد ان انخفض الدولار من 72 الى 50 وأصبح متاحاً في البنوك، مما يقلل إحتمالية مشاركتهم مرة آخرى في السوق.
- زيادة الاحتياطيات الأجنبية
من المتوقع أن تؤدي هذه الخطوة إلى تعزيز الاحتياطيات الأجنبية لمصر من خلال جذب الاستثمار الأجنبي المباشر وتشجيع إعادة رؤوس الأموال التي ربما كانت موجودة في الخارج بسبب المخاوف بشأن استقرار سعر الصرف. فقد نصح صندوق النقد الدولي بتخلي الدولة المصرية عن الممتلكات الاقتصادية وترك السوق المحلي للمستثمرين وان تكون الحكومة مجرد منظم للأقتصاد وان لا تكون بمثابة منافس او مشارك في السوق من الأساس.
- ضمان الانضباط المالي
يشجع نظام سعر الصرف المعوم الانضباط المالي، حيث تضطر الحكومة إلى معالجة القضايا الهيكلية في الاقتصاد بدلا من الاعتماد على ربط العملة للحفاظ على الاستقرار. فبعد التخلي عن فكرة منافسة المستثمرين ومحاولة تشجيعهم، من المفترض ان تتجه الحكومة المصرية الى دعم الاستثمار وتوفير مناخ آمن للتداول والاستثمار واستغلال الموارد المتاحه.
كيف تحمي أموالك من التعويم؟
إن حماية أموالك من تأثير تعويم العملة تتطلب اتباع نهج استراتيجي يأخذ في الاعتبار التقلبات المتأصلة في أسواق الصرف الأجنبي. يظهر التنويع كاستراتيجية رئيسية، تتضمن توزيع أصولك عبر مختلف العملات والاستثمارات والمناطق الجغرافية. إن الاحتفاظ بمزيج من الأصول المقومة بعملات مختلفة يمكن أن يساعد في تخفيف المخاطر المرتبطة بانخفاض قيمة العملة الواحدة، وهو ما يمكنك فعله عبر تداول العملات أو تداول السلع.
بالإضافة إلى ذلك، فإن البقاء على اطلاع بالاتجاهات الاقتصادية العالمية والتطورات الجيوسياسية يمكّنك من اتخاذ قرارات مستنيرة وتعديل استراتيجيتك المالية وفقًا لذلك. تُعد الاستفادة من خبرات المستشارين الماليين والخبراء في مجال التمويل الدولي أمرًا بالغ الأهمية أيضًا لتطوير استراتيجية مالية مرنة مصممة خصيصًا لمواجهة المخاطر المحددة المرتبطة بتقلبات العملة.
الملخص
كان قرار تعويم الجنيه المصري خطوة جريئة وضرورية لمصر لمواجهة التحديات الاقتصادية طويلة الأمد. ومن خلال تبني نظام سعر صرف يحركه السوق، تسعى البلاد إلى إطلاق العنان لإمكاناتها الاقتصادية، وجذب الاستثمار الأجنبي، وخلق بيئة اقتصادية أكثر شفافية واستقرارا. وفي حين أن التخفيض الأولي لقيمة العملة شكل تحديات، فمن المتوقع أن تساهم الفوائد طويلة المدى لهذه الخطوة الإستراتيجية في النمو الاقتصادي لمصر ومرونتها في السوق العالمية. بينما يواصل البنك المركزي المصري اجتياز المرحلة الانتقالية، تقف البلاد على حافة حقبة جديدة من الازدهار الاقتصادي.